عرض مشاركة واحدة
قديم 07-04-2009, 07:53 PM   #2
عاشق ترابها
متداول نشيط
 
تاريخ التسجيل: Oct 2005
المشاركات: 895

 
افتراضي

تركي عبدالعزيز الثنيان
ذبّاح الكلب
تستشري بيننا فكرة مسمومة تقضي بأن كل ما يدخل في عموم الملكية العامة هو حمى مستباح يجوز "نهبه" متى حانت الفرصة المناسبة. يروي أحد رجالات الدولة –المتقاعدين- وقائع قضية تخص إحدى مؤسسات الدولة فيقول، للدولة أرض قامت بتأجيرها على أحد المواطنين لفترة عشر سنوات بأجرة زهيدة. بعد أن انتهت العشر السنوات، رغبت هذه الجهة الحكومية استعادة الأرض وعدم تجديد العقد. المستأجر لم يرغب ذلك ويريد أن يستمر في تلك الأرض شبه المجانية إلى الأبد أو إلى أطول فترة ممكنة، فاخترع ألاعيب وتفنن في كيفية إطالة أمد بقائه في تلك الأرض. لم تجد تلك الجهة الحكومية أمامها إلا اللجوء إلى الجهة القضائية لاستصدار ما يخولها ارتجاع الأرض وإزالة ما يوجد عليها. وابتدأ المشوار في رحلة لم يعتقد أي أحد أنها ستطول لسنوات. يقول رئيس هذه الجهة لم أصدق ما يحدث، فقررت حضور الجلسات أمام القاضي مع الممثل القانوني. وفي أول جلسة أحضرها، لم أملك أعصابي فتحدثت مع القاضي وقلت له ألا ترى وضوح حق الحكومة في استرجاع الأرض واضحا بينا؟ وهل لو كانت نفس المعطيات لأي إنسان مقابل هذا الخصم، أتعتقد أنها ستستغرق نفس الوقت والتعقيدات. فأجابه القاضي ببساطة: لا، لو كانت القضية بين شخصين لحكمت من أول جلسة، ولكن هذه قضية ضد بيت مال المسلمين، وللمستأجر فيه حق بدون عقد الإيجار هذا. يقول أسقط في يدي من هذه العقلية، فأجبته مباشرة، وألا ترى أن لبقية المواطنين أيضا حقا في هذا البيت، وأن هذا الرجل يغتصب حقهم دون وجه مشروع؟ ثم أخرجت آلة حاسبة وحسبت له حق هذا المواطن في الأرض ووصلت إلى رقم 9 ريالات، فأخرجت من جيبي مبلغ عشرة ريالات وقلت للقاضي الريال الإضافي منحة من الحكومة لتطييب خاطره....يضحك المسؤول اليوم وهو يحدثني عن القضية قائلا، تقاعدت والقضية لم تنته لا تزال منظورة...
ما استوقفني في القصة وآمل أنه استوقفكم هو أمران. الأول، أن استباحة حمى الأموال العامة تبدو فكرة مقبولة عند الجميع كهذا المستأجر؛ نسمع في كل مجلس أن "الهامور" أو "المتنفذ" الفلاني متهم في انتزاع تلك الأرض أو أخذ ذلك المشروع، ونتغاضى عن أن هذا ليس استثناء لكي نطالب بتعديله، فنحن وعلى جميع المستويات نفعل ذات الشيء، الفارق هو في الدرجة فقط، فلماذا نستبغضه إذا كان من آخر ونستحله إن كان من بين أنفسنا؟ إذا الموضوع فقط هو لحساب ومصلحة من؟ ألا ترون إلى رمي المهملات في الأماكن الربيعية، أماكن تنزه الناس، ألا تستعجبون إذا وجدتم المكان نظيفا؟ من قام برمي المهملات؟ نحن من يقوم بهذا لأنها أراض مستباحة، يحق لنا فعل ما نشاء. باختصار، الموضوع اجتماعيا مقبول.
الأمر الثاني، أن القضاء المسؤول عن تعديل الانحرافات الاجتماعية بشكل أو بآخر يساهم في تغلغل هذه الفكرة بأسلوب يسبغ عليها شرعية تجعلها مستساغة قضاء (وربما ديانة). فلم إذاً نحن غاضبون؟ بعض القضاة لا يرونه مخالفا لأي قاعدة فقهية-نظامية-قانونية مهما كانت، فالموضوع ملكية مشاعة يستطيع كل واحد أن يستأثر بها (أو أن يستأثر بها أطول وقت ممكن) ما دام خصمه الدولة....أصبحت أجهزة الدولة خصما بغيضا لا أحد يطيقه. لقد أصبحت أملاك الدولة مجرد فكرة أفلاطونية لا رقيب ولا حسيب عليها إلا جهات حكومية يتيمة، لا يوجد لها سند ولا عضيد، فأرضية المجتمع مخالفة لها، والقضاء –أو بمعنى أدق بعض القضاء-يسبغ عليها الشرعية اللازمة، وإن امتزجت الشرعية الاجتماعية والقانونية فلا مجال لأن تنمو فكرة حماية الأملاك العامة بأية طريقة مهما كانت.
ما العمل؟ أترك الإجابة لكم، فأنا مثلكم لا يمكن أن أدعي ملائكية تخرج بي عن سياق النص الاجتماعي والقانوني، فإذا كنا جميعا لا نشعر بشيء اسمه "ملكية جماعية" في هذا الوطن، فلا يمكن لأي قوة في الأرض أن تعلي من شأن الملكية العامة....إذا كنا بشكل جماعي لا نعتقد أن ممتلكات الدولة هي ممتلكاتنا، وأنها ملكية عامة لكل منا حق فيها، فلا تستغربوا في يوم من الأيام أن يتم اختفاء مدرسة الحي أو طريق ترابي لأنها أملاك عامة...وليس هذا مجرد مبالغة؛ فهل صحيح أن الحديقة العامة في جدة بقدرة قادر اختفت من خريطة الأراضي الحكومية...؟ ألا تسمعون همس المجالس من يضمن اين ستنتهي السلسلة؟ ونحن جميعا أول من يلام ما دمنا قصرنا في الحديقة والشارع والبراري... اضطربت أولوياتنا بشكل فاحش فلم نعد نعبأ بما نفعل بينما نستشيط غضبا من فعل الغير. لم نستشعر حس المسؤولية في البراري، فلم الغضب "المضري" إذا حدثت خلف سور منزلكم؟
يقص أصدق أصدقائي علي في طفولتي -التي لم تنته بعد- قصة "اذبحوا ذباح الكلب" مختصرها أن من ذبح كلب الحراسة هو من سرق الحي.
عاشق ترابها غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس